د. حيدر حسين آل طعمة
تخلص دراسة جديدة أصدرها صندوق النقد الدولي إلى أن تهيئة مناخ أعمال أكثر تنافسية وتعزيز مهارات القادرين على العمل وتحسين فرص الحصول على التمويل تمثل عوامل أساسية لدعم آفاق النمو طويل الأجل في منطقة الشرق الأوسط. فعن طريق سد الفجوة في هذه المجالات الثلاثة، يمكن مضاعفة معدلات النمو طويل الأجل في معظم بلدان المنطقة.
اما بالنسبة للبلدان المصدرة للنفط في مجلس التعاون الخليجي وفي القوقاز وآسيا الوسطى، سيتلقى النمو دفعة أقل، ولكنها تظل بالحجم الكافي لتعويض الانخفاضات الأخيرة في معدلات النمو طويل الأجل الناجم عن الهبوط الحاد في اسعار النفط الخام، والتي تهدد المستويات المعيشية في المستقبل، بحسب الدراسة. وعلى ذلك، تشير الدراسة الى إن اعتماد سياسات اقتصادية مناسبة يمكن أن تنتشل المنطقة من حالة الركود التي يمر بها النمو في الوقت الراهن، وتحول التحدي الى فرص للإصلاح والنمو المستدام.
تحديات غير مسبوقة
تواجه بلدان الشرق الأوسط وآسيا الوسطى تحديات اقتصادية مركبة ناجمة عن موجات الهبوط السعري لبرميل النفط وانحسار الإيرادات النفطية، واحتدام الصراعات، وتصاعد التوترات الأمنية والجيوسياسية. وتحدد الدراسة ([1]) أهم الإصلاحات الهيكلية اللازمة لرفع معدلات النمو الاقتصادي طويل الأجل في المنطقة. واستنادا إلى تحليل تجريبي شمل تجارب بلدان أجرت إصلاحات ذات أنماط مختلفة، تنظر الدراسة في مدى فعالية هذه الإصلاحات في تقوية محركات النمو الاقتصادي من منظور العرض، كتعزيز رأس المال والاستخدام والإنتاجية.
ويتطلب إطلاق النمو في المنطقة تحديد الإصلاحات الضرورية لرفع معدلات نمو الإنتاجية في البلدان النفطية، وبناء رأس المال المادي (البنية التحتية) كالمباني والطرق والجسور ونظم الاتصالات المتطورة. اضافة الى اعتماد برامج تدريب وتأهيل العنصر البشري للتكيف مع الفرص التي توفرها اسواق العمل. ولا يقتصر تأثير رفع الإنتاجية وزيادة رأس المال البشري على رفع النمو الاقتصادي طويل الأجل بشكل مباشر، بل إنه يساعد المنطقة أيضا على استيعاب القوى العاملة المتزايدة في الأنشطة الاقتصادية المنتجة. كما تؤدي الإصلاحات الدافعة للإنتاجية إلى دعم تكوين رأس المال المادي في البلدان المذكورة. ومن بين مجموعة كبيرة من مجالات الإصلاح، تشير الدراسة إلى أن مناخ الأعمال التنافسي وتحسين مهارات العمال يمثلان خطوات أساسية لإعطاء دفعة قوية للإنتاجية في المنطقة، بينما يمثل تطوير الأسواق المالية مطلبا أساسيا لتراكم رأس المال المادي.
صدمات متعددة
ما السبب في أهمية رفع النمو طويل الأجل؟ تحاول الدراسة الاجابة على هذا السؤال عبر التأكيد على تراجع آفاق النمو الاقتصادي طويل الأجل في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وبوتيرة أسرع من بقية أنحاء العالم، فالصراعات المحتدمة في العراق وسوريا واليمن تقوض آفاق النمو والاستقرار بما تحدثه من خسائر فادحة في الأرواح، وأضرار جسيمة في الاقتصاد، وكذلك بإجبار نسبة كبيرة من السكان على الفرار إلى الخارج. كما تسهم هذه الصراعات بشكل كبير على إضعاف الثقة في الاقتصاد وتصعيد التوترات الأمنية في بلدان مجاورة. وهناك شعور متزايد بالإحباط من لدن المواطنين جراء نقص الوظائف المتاحة والفرص الاقتصادية والافتقار إلى النمو الاحتوائي، وكلها أسباب أساسية وراء حركات الربيع العربي التي حدثت منذ العام 2011. ويتعين رفع النمو طويل الأجل لمعالجة هذه المشاعر التي تساهم بدورها في الصراعات الدائرة في المنطقة.
ويفرض ركود أسعار النفط مخاطر على المستويات المعيشية في الاقتصادات الغنية بالنفط في منطقة الشرق الأوسط. فقد أصبحت نماذج النمو التي ترتكز على المورد النفطي، وتقودها الحكومة في هذه البلدان، غير قابلة للاستمرار في بيئة أسواق النفط الجديدة. ذلك أن إيرادات النفط لم تعد كافية لتمويل الإنفاق الحكومي الضخم الذي دفع النمو في الاقتصاد غير النفطي خلال العقود الماضية، وسمح للحكومات بأن تصبح المصدر الرئيسي للعمل بالنسبة للسكان. وبالرغم من أن البلدان المستوردة للنفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأفغانستان وباكستان تستفيد من انخفاض أسعار النفط، فإن هذه المكاسب تتبدد تحت تأثير التداعيات التي تطالها من البلدان المجاورة الغنية بالنفط عن طريق التجارة وتحويلات العاملين والاستثمار والتمويل.
توصيات بشأن السياسات
أصبح تحسين آفاق الاقتصاد أولوية عاجلة بالنسبة للمنطقة، اذ تواجه بلدان مجلس التعاون الخليجي في سعيها لتخفيض الاعتماد على النفط تحدي تنويع الاقتصاد وتعزيز نمو القطاع الخاص. وتخلص الدراسة إلى أن تحسين فرص الحصول على التمويل وضمان الحقوق القانونية يكتسبان أهمية خاصة في تطوير القطاعات المالية التي تستطيع تحويل المدخرات بشكل كفء الى مشروعات القطاع الخاص الأكثر امتلاكا لمقومات النجاح. ويمثل تطويع التعليم والتدريب لاحتياجات القطاع الخاص مطلبا أساسيا لرفع إنتاجية العمالة الوطنية وتحسين احتمالات تشغيلها في القطاع الخاص وامتصاص الاعداد المتزايدة من العاطلين عن العمل.
أما خارج الخليج، فتعَلّق أهمية خاصة على التوسع في البنية التحتية وتحديثها في العراق وغيره من البلدان، بدعم من الاستثمار العام الكفء، وتحسين فرص الحصول على التمويل وترسيخ الحقوق القانونية. ويمكن المساعدة في تخفيض التكلفة المرتفعة لممارسة الأعمال من خلال تعزيز سيادة القانون، ومكافحة الفساد، والحد من هيمنة المؤسسات الكبرى المملوكة للدولة على الاقتصاد، وتبسيط القواعد المنظمة للأعمال والضرائب، والحد من الروتين الإداري. ويمكن دعم مهارات العاملين ليس فقط من خلال تحسين التوافق بين التعليم واحتياجات القطاع الخاص، بل أيضا بالاستعانة بذخيرة المعرفة والدراية الفنية التي يتمتع بها العدد الكبير من المغتربين الناجحين في الخارج.
ومن شأن زيادة التكامل التجاري العالمي أن يساعد في تعزيز رأس المال المادي ورفع الإنتاجية بقيادة القطاع الخاص. ولتحقيق هذا الهدف، يمكن المساعدة في جذب الاستثمارات الدولية وربط المنطقة بسلاسل العرض الدولية إذا تم التحول إلى الصادرات ذات القيمة المضافة العالية من خلال دعم الاستثمار. وهكذا وباعتماد السياسات انفة الذكر من المرجح أن تتبدد قريباً الرياح المعاكسة لآفاق النمو طويل الأجل في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.