آفات إجتماعية قاتلة (35)
المسنون واﻵباء المنسيون بغياب المشاريع الإنسانية = مجتمع فالصو !
قال تعالى ” وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا”.
احمد الحاج
نعم لقد أغاظتني كثيرا اﻻ أنني لم أستغرب حادثة الإعتداء البشعة التي طالت إمرأة عراقية مسنة على يد ضابط إيراني في مطار مشهد لأنها ليست الحادثة اﻷولى ولن تكون اﻷخيرة قطعا اذ سبق أن تواترت اﻷنباء بشأن سرقة وقتل والإعتداء على العديد من المسافرين العراقيين ومن مختلف اﻷعمار هناك وسط إما صمت رسمي مطبق ، أو رد فعل خَجول ومُخجل ، كل ذلك بعد ساعات على رفع تأشيرات الدخول بين العراق وإيران ، وما أثار حفيظتي أكثر هي تلك المشاريع الرسالية والإنسانية الوهمية التي تتشدق بها اﻷحزاب السياسية المحلية بعناوين براقة وكل حزب بما لديهم فرحون والتي لم تتضمن برامج واقعية وحقيقية لرعاية المسنين وﻻ المعاقين وﻻ العاطلين ناهيك عن الفقراء والمساكين ، وإن كنت أعجب فعجبي من أمم رأسمالية كاليابان ، النرويج ، هولندا ، سويسرا ، السويد ، آيسلندا ، المانيا ، كندا لا مشاريع رسالية سياسية – يسارية أو يمينية – عندها تجعجع بها صباح مساء كما نفعل نحن قد كفلت حقوق المسنين لديها وضمنت رعايتهم وعلى المستويات كافة وقدمتهم على بقية الشرائح الاجتماعية اﻷخرى في كل شيء حتى عُد مسنو تلكم الدول هم اﻷسعد واﻷوفر حظا في العالم ، فيما يعاني المسن عندنا من التهميش والإهمال وفقدان الحنان ولسان حال أحدهم يردد بيت ابي العتاهية :
ألا ليتَ الشَّبابَ يعودُ يوماً ..فأُخبِرَهُ بما فعَلَ المشيبُ
السبب في ذلك بتصوري القاصر هو أن الثغرة الطبقية بين – بيروقراطيي- المشاريع القابعين في اﻷبراج العاجية ، وبين قواعدهم الجماهيرية المهمشة في الخيام والعشوائيات والبيوت المستأجرة وطوابير العاطلين ودور اﻷيتام والمسنين بغياب الرغبة الفاعلة لتذويب تلكم الفوارق وردم الهوة التي تتسع يوما بعد آخر وفقدان شهية النزول الى الشارع للاطلاع على أحوال المهمشين عن كثب هي بمثابة القرحة النازفة التي يراهن عليها أعداء المشاريع لوأدها برمتها بعد – لفط – مخصصاتها ، بل وضم – العاجيين أنفسهم -بما نُصدم به يوميا الى صفوفهم والعمل على تفريق القواعد الجماهيرية وتشتيتها بين المشاريع المشبوهة كذلك !
أيها الرسالي إنزل الى الشارع قبل أن يصعد الشارع كله بعد طفح الكيل اليك ، هيا هلم اﻵن وليس غدا وسارع ، أشعة شمس اﻷرصفة والعشوائيات والمخيمات وبخلاف – ثريات اﻷبراج الكرستالية – ليست مفيدة للعظام فحسب وإنما للادمغة والضمائر الحية والمشاريع الرسالية التي تتمشدقون بها أيضا ، غادر برجك العاجي قبل أن تتعفن ، هذا إن لم تكن قد تعفنت وأفكارك فعليا ،وعلى قادة المشاريع الحقيقية الواعية إن وجدت أن يعوا بأن في صفوفهم مئات – الحثلكية والوصوليين – وبالتالي فعليهم أن لايراهنوا على الكثرة وإنما على النخبة ، وأنوه الى أن المشروع الرسالي أو الانساني إن لم ينطلق صحيحا منذ خط الشروع اﻷول فإن تصحيح مساراته لاحقا بناء على التجارب المتتابعة ستفسر على أنها إنقلاب داخلي أكثر من وصفه تقويما للمسارات وتحقيقا للمسرات !
وزارة التخطيط في تقريرها اﻷخير بشأن أعداد المسنين في العراق كشفت عن وجود مليون و200 الف مسن ( المسن قانونا كل من تجاوز سن الـ 60 ) ،بما يشكل 3% من نسبة السكان ، 6.6 %من هؤلاء من ذوي الاحتياجات الخاصة ، و 23.5% منهم غير متزوجين حاليا إما لطلاق أو عنوسة أو وفاة ، هذه الإحصائية تؤشر الى عظم المسؤولية التي تقع على عاتق المجتمع بكل شرائحه في الوقت الحاضر لمساعدة هؤلاء ومنهم من يجمع بين الشيخوخة والإعاقة والعنوسة في آن واحد ، بغياب العائلة الكبيرة الذرية ( تضم اﻷجداد والجدات ، اﻷبناء وزوجاتهم واﻷحفاد) ما يؤمن للمسن بكنفها الرعاية الكافية إن لم يكن من قبل اﻷبناء فعلى يد اﻷحفاد والكنات ، لتحل محلها العائلة الصغيرة النووية ( تضم زوجين وبين 1- 5 أطفال ) وهذه العائلة لاتحتمل وﻻ تتحمل بالعادة رعاية كبار السن ﻷسباب كثيرة لعل من أبرزها ضيق المكان وضعف ذات اليد فضلا عن إنشغال الزوجين بالوظيفة والعمل طيلة ساعات النهار علاوة على إنشغال اﻷولاد والبنات بالدراسة ودوام المدارس ، مع بروز ظاهرة أخرى لاتقل خطرا في العراق اﻻ وهي ظاهرة النزوح والتهجير وكثرة المفقودين والمختطفين والمعتقلين والمغيبيين قسرا وجلهم ترك خلفه عوائل بلا معيل وآباء وأمهات كبار في السن لم يعد أحد يهتم بهم ويرعاهم وهم الشريحة اﻷمس للرعاية والاهتمام بما لاتستوعبه دور المسنين اﻷهلية والحكومية القليلة في بغداد والمحافظات فهذه الشريحة التي خدمت المجتمع طويلا وأفنت شبابها من أجله بحاجة الى الخدمات الاجتماعية والصحية والنفسية والثقافية والترفيهية المستمرة وبحاجة الى متابعة متواصلة تضمن أخذ العلاج بمواعيده وتأمين ومراقبة النظام الغذائي الخاص وقضاء الحاجات المناسبة لهم ، وأذكر الجميع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :”ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا”، وقوله صلى الله عليه وسلم : ” رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ ” قيلَ: مَنْ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: مَن أدْرَكَ والِدَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أحَدَهُما، أوْ كِلَيْهِما، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ” ، وقوله صلى الله عليه وسلم ” ألا أحدِّثُكم بأَكبرِ الكبائرِ؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللَّهِ، قال: الإشراكُ باللَّهِ، وعقوقُ الوالدينِ”.
اليوم بتنا نسمع كثيرا وعلى غير المعهود عن إبن عاق يرمى أمه العجوز مع أغراضها في الشارع ، بنت تطرد والدها المسن من بيتها إكراما لزوجها ، إرغام اﻵباء والامهات الطاعنين في السن على دخول دور المسنين ومن ثم تركهم هناك حتى من دون السؤال عنهم بعدها أبدا ، عقوقهما وضربهما وشتمهما من قبل أبنائهما في قصص محزنة ومروعة يشيب لهولها الولدان ، ولهؤلاء العاقين أعرض لهم الحديث النبوي الشريف : ” كلُّ ذنوبٍ يؤخِرُ اللهُ منها ما شاءَ إلى يومِ القيامةِ إلَّا البَغيَ، وعقوقَ الوالدَينِ، أو قطيعةَ الرَّحمِ، يُعجِلُ لصاحبِها في الدُّنيا قبلَ المَوتِ”، والحديث النبوي الشريف حين سُئِلَ النبي اﻷكرم صلى الله عليه وسلم عَنِ الكَبَائِرِ فَقالَ: الشِّرْكُ باللَّهِ، وقَتْلُ النَّفْسِ، وعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ” وأشدد على أن البر لايكون في حياة اﻷبوين فحسب وإنما بعد موتهما أيضا وذلك بكثرة الدعاء والإستغفار لهما ، بالتصدق والحج والعمرة عنهما ، بإكرام معارفهما وأصدقائهما ، بجميل ذكرهما والترحم عليهما .
ولعظم شان الشيخوخة فأن معظم اﻷفلام السينمائية التي تناولتها أسوة بتلك التي تطرقت الى مرحلة التقاعد والترمل ومعاناتهما قد حصدت جوائز رفيعة ودخلت في سجل أفضل الافلام العالمية وأبرزها فيلم “عن شميدت” بطولة جاك نيكسلون، الذي حصل على 25 جائزة رفيعة ، وفيلم ” الشباب ” بطولة سير مايكل كين ، الذي حصد 16 جائزة ، كذلك فيلم “أغنية لماريون” ، وفيلم ” غلوريا” الحاصل على السعفة الذهبية ، فيلم”الرباعية”لداستين هوفمان وغيرها ما يدل على أن للشيخوخة سحر آخاذ يأخذ بالمشاعر واﻷلباب لرقة وضعف أبطالها ممن أوصت الشرائع السماوية برعايتهم على الوجه اﻷمثل ، بتقبيل أياديهم وأقدامهم ، إيوائهم والترفق بهم ، السعي في حاجاتهم ، تلبية مطالبهم ، أنفاذ وصاياهم ، علاجهم ، مساعدتهم ، التسابق لتلبية إحتياجاتهم ، الدفاع عنهم ، العيش ببركة دعائهم .
المطلوب من الجهات الحكومية حاليا بناء أكبر عدد من دور المسنين العصرية المريحة وتزويدها بكافة الاحتياجات واللوازم والطواقم المدربة لرعاية كبار السن من كلا الجنسين في جميع المحافظات ، تخصيص راتب شهري مجز لهم ، توفير اﻷدوية والعلاجات اللازمة لهم وإخضاعهم للفحص الدوري في جميع المستشفيات والمؤسسات الصحية مجانا ، توفير كراسي المشلولين والعكازات اﻷبطية والمرفقية ( الرباعية ، الثلاثية ، اﻷحادية ) ، سماعات خلف اﻷذن لضعاف السمع ، عصي الإرتكاز المخصصة للمكفوفين ، فرش التقرحات ، المرافق الصحية الخاصة المتنقلة والثابتة ، توفير العلاج الطبيعي لهم مجانا ، إجراء العمليات الجراحية لهم بلا مقابل وباﻷخص ما يتعلق منها بكسور الحوض والمفصل والرقبة ، تثقيف المجتمع بمكانة المسن وكيفية التعامل معه في كل مكان وعند الاصابة بأمراض الاكتئاب ، الزهايمر ، البارنكسون ، هشاشة العظام ، ضعف السمع والبصر ، التهاب المفاصل الضموري ، سلس البول ، إضافة الى الضغط والسكري وأمراض القلب و الشرايين وما شاكل من أمراض الشيخوخة القاسية التي تتطلب الرعاية والمتابعة الدائمة نفسيا وجسديا ، ماديا ومعنويا .
وختاما أقول لاخير في مجتمع لايرعى مسنيه في جميع المجالات ، وﻻخير في حكومة لاتهتم بضعفائها وﻻ توليهم الرعاية اللازمة وعلى رأسهم كبار السن ومن بلغوا الشيخوخة ومن العمر عتيا ، وﻻ خير في أطباء لايعاملون المسنين كما يعاملون آباءهم وأمهاتهم ،ولاخير في أبناء يعقون آباءهم وأمهاتهم ولايبرونهم ، فأرحموا عزيز قوم ضعف وشاب بعد قوة وذل ، وصدقا ما قاله الشاعر راشد السلمي عن الشيخوخة :
فصرت الآن منحنيا كأني… أفتش في التراب عن شبابي
اودعناكم اغاتي