د. نبيل أحمد الأمير

البصرة التي بنيت عام 16 – 14 هجرية ، عرفت عمارة الشناشيل في أيام الاحتلال العثماني في القرن الـ 17 الميلادي ، مع ظهور عدد من الفنون الأخرى .
عرفت “الشناشيل” بأنها أثر معماري فولكلوري بصري لايختلف إبداعا عن فن النحت والرسم والفوتوغراف وغيرها من الفنون . وأيٍ كان الأمر فقد قام معماريو البصرة بأغناء الشناشيل سواء بالمعمار أو مواد البناء . ويصفها العديد من المهندسين بأنها عبارة عن نتوات خارجية مكونة من الطابوق والخشب والجص والحديد .

كلمة شناشيل تعني موضع جلوس الملك ، وكان البصريون كثيري الاهتمام ببنائها مما زاد من انتشارها في السنوات السابقة .

وعمارة المدن محط اهتمام المهندسين منذ القدم من حيث المواد المستخدمة في البناء بما يتلائم مع طبيعة المناخ خصوصا في أزمنة عدم وجود الطاقة الكهربائية وعدم وجود أجهزة التبريد والتدفئة ، والبصرة تمتاز بالجو الحار الرطب في الصيف .
أن التربة في البصرة تمتاز بكونها تربة مستنقعات ممتدة من محافظة العمارة ، ومحافظة الناصرية المحاذيتان لها ، حيث نلحظ ان مركز مدينة قضاء القرنة الأكثر تأثرا في هذا الطابع الطبوغرافي .
فيما يرى الكثير من فنانوا البصرة التشكيليين أن الكثير من المدن العراقية عرفت الشناشيل مثل النجف ، والموصل ، والاعظمية القديمة ، وإحياء أخرى متفرقة من العاصمة بغداد .

ويؤكد المعماريون إلى إن جنس الشناشيل العراقية تنتمي إلى جنس معماري واحد ، لكن النظرة التفصيلية تكشف عن فروقات قليلة آو بسيطة ، فمثلا في البصرة تعنى الشناشيل بالأعمدة الخشبية وبتشييد القناطر الحجرية او الخشبية ، مع عناية واضحة بالزخارف البنائية عبر التشكيل الخشبي ، إما في بغداد نلمس عناية كبيرة في القضبان الحديدية ووجود السراديب “التختبوش”.
وإن الشناشيل لاتبنى بصورة منفصلة عن البناء الأساسي بل تتلبًّس بها بما يمثل واجهة البيت الخارجية والجانبية والسقوف والأعمدة الساندة ويعتبر هذا الفرق الوحيد بين الشناشيل في البصرة وبغداد .
كما إن الشناشيل في البصرة تأتي متماشية مع الوضع والقيم الاجتماعية في المدينة وخصوصا في تلك المرحلة التي شاع فيها بناء شبابيك الشناشيل ذات المشبكات الخشبية البارزة على صورة مسننة ، ذلك لان شكلها يسمح لساكني أهل الدار ان يشاهدوا المارة من الخارج في حين المار من الخارج لا يرى ساكني الدار، وتلك خاصية مهمة للنساء اللواتي يتواجدان في الداخل .

وان أبنية الشناشيل في الطابق العلوي تكون متقاربة جدا بين كل منزلين متقاربين إلى حد يسمح بتبادل الأحاديث وقيام علاقات اجتماعية متينة .
كما إن معماريو البصرة في تلك الحقبة استطاعوا تحقيق قفزة نوعية في ذلك المضمار، لاسيما التعامل الفني مع طبيعة الأرض البصراوية الهشة في تشييد أبنية متعددة الطوابق .
وقد تجاوب المعماري مع الأرض الطينية باستخدام الخشب الخفيف لبناء طابق ثان يوفر مظلة كبيرة بين الأزقة لحماية المارة من الشمس , إضافة الى مرور التيارات الهوائية الباردة .

واليوم يُعبّر جميع المهتمين بالشناشيل عن استياءهم الشديد لما اعتبروه تدهورا مستمرا لتراث مدينة البصرة حيث هناك موت مُعْلَن لكل تراث البصرة منذ تسلّم النظام ألبعثي السلطة حتى وصول الكثير من المخربين والجهلة إلى السلطة اليوم ، وأصبح بلدنا يمر بمقولة تكاد تكون متطابقة تماما مع وضعنا اليوم ((خطأ اليوم ، ثقافة غدا ، قانون بعد غد)) ، فالخراب لم يشمل البشر بل تعداه حتى إلى الحجر .

يجب ان نضع حد للتدهور والخراب الثقافي المرعب ، فهنالك تهشيم للوضع العراقي داخليا، من خلال العبث بالتاريخ ومحاولة طمس ملامحه بزرع هستيريا النهب والسلب والتخريب ، وجعلها ثقافة سائدة بالمجتمع ، فنرى اليوم الكثيرين يتسابقون على موائد السلب والنهب والتخريب ، وتحديدا في الجنوب العراقي حيث وقع عليه ظلم تاريخي من خلال الحروب المتتالية التي جعلته مسرحاً للموت والدمار والخراب ، مما ساعد في دمار البنى التحتية والآثار فيه .
فيما استدرك عدد من ساكني الشناشيل الوضع الذي يعيشون فيه في تلك الأبنية والتي كما أشاروا إلى أن الدولة لاتُعنى بهم وبتراث البصرة وتركت تلك الأبنية تتعرض للدمار ، ولم تأخذ بالإعتبار انها تاريخ وتراث للعراق يجب الحفاظ عليه .
والشناشيل يعود انتشارها في حواضر الدولة العربية الإسلامية إلى العصر الفاطمي حيث تطورت العمارة العربية ، وأضفوا الكثير من الزخرفة الخشبية المكونة بتعريشة نباتية للمُيَسّرين والتجار ، وبالتأكيد اخذ الفاطميون بعض تقنية الشناشيل من الدول التي تاجروا معها وخاصة الهند واسطنبول .
ويذكر المؤرخون بان خشب “الجاوي” كان يستخدم وهو النوع المفضل في العمائر البصرية ، وكان سكان البصرة القدامى المتمكنين يعمدون إلى طلاء شبابيك الشناشيل بالدهان العطري ، ويلاحظ أن شريطا “إبْزيما” يربط أجزاء الشناشيل بعضها ببعض لكي تكون ذات متانة قوية تستمر عقود من الدهر .
إضافة إلى أنها تعتمد على أعمدة ملساء ومضلعة وتعلوها تيجان مقرنصة ، في حين عمد الفنانون إلى تزويدها بفصوص مدببة أو مسننة وأحيانا ثلاثية الفصوص وهذه الأشكال تتباين حسب الإمكانية المادية والذوق لصاحب البناء ، وقد تأخذ نقوش شبكية ، ويلاحظ أن الفتحات العليا للأقواس أوسع من الفتحات السفلى وذلك لأنها تحتضن أنواع الزجاج المشجّر والملوّن ، ويلاحظ في بعض الشناشيل أن السقوف والسلالم تُشْمل بالزخرفة والتلوين .

ويشدد الكثير من المهتمين بالشأن الثقافي أن الدولة يجب أن تُعنى بهذا الإرث المعماري والفولكلوري البديع الذي يؤلف جزء مهم من تاريخ البصرة والعراق وإعادة تأهيلها واعتبارها معلم سياحي بارز في هذه المدينة التاريخية التي شهدت العديد من الحوادث والأحداث المطبوعة في ذاكرة التاريخ منذ القدم .

والله من وراء القصد .