حقيقة ألدّعوة”الأسلاميّة”
لا أقول بأنّ دعاة اليوم وجّهوا طلقة الرّحمة للدّعوة بعد إستنزافها بدل إستنزاف أنفسهم للدّعوة إلى آلله .. بل أقول عليلٌ يُصارع الموت.
كما لا يختلف عراقيان بكون (حزب الدعوة) حزب الشهداء وآلمضحين ألذين تصدّروا الجموع لمقارعة النظام الصّدامي الدّموي وصمدوا بوجه التعذيب الوحشيّ لأبعد الحدود حتى عجز الجلادون عن إنتزاع كلمة للتأثير عليهم و على الدّعوة, و لم يُساوموا .. بل كان من غير الممكن ألمساومة مع الظالمين, رغم تنازل النظام أيام ذلّته قبيل السقوط بعد تيقّنه من أنّ أمريكا ستقرر نهايتهم, لكنّ المجاهدين قالوا لعزة الدّوري الذي طلب العون في لقاء خاص بإيران قبيل بدء الهجوم؛ نحن لا نثق بكم أيها الجلادون!
إلا أنّ الصورة الحقيقية للدّعوة و آلدّعاة رغم كل هذا بقيت خافية .. و ما زال النصف الآخر المخفي من القمر غير معلوم حتى للدّعاة أنفسهم, و بما أنّ الأسلام محفوف بآلمسلمين فأنّ الدّعوة محفوفة بآلدّعاة أيضا, فآلدّعوة عبارة عن منهج حركي قابل للتغيير لتحقيق أهداف مُعيّنة بفعل الدّعاة, و الحال أن الهدف المنظور في (مرحليّة الدّعوة) قد إختصرت بـ (الحكم الأسلامي) ثمّ نشر الأسلام, و لكن لم يُحدّد ملامح و خصوصيات ذلك الأسلام, كما هو حال الأحزاب و التنظيمات الأخرى, لذلك وبسبب الأمية الفكريّة لم يكن غريباً حِين قَلَبَ الدّعاة حتى إسم (حزب الدّعوة الأسلامية) إلى (حزب الدّعوة العلمانية) و لم تردعهم الخطوط الحمر للولاية ودورها في تثبيت آلأصول والأحكام, و تحصينهم من الوقوع في أحضان ولاية المستكبرين الذين أعلنوا الحرب على المستضعفين و الفقراء في العالم!

هذا رغم إنّ الأسلام الحقيقي واضح و مُبيّن لأهل القلوب لا آلأبدان, حيث بيّنهُ الباري تعالى في نهج القرآن الموضوعيّ و ليس التجزيئيّ مجملاً و كذلك في نهج الرسول و أئمة أهل البيت الموضوعيّ لا التجزيئي مفصلاً, ذلك أنّ التفاسير التجزيئية للثّقلين هي السبب في تفريق و أنحراف المسلمين و تعميق الطائفيّة وترسيخ الدكتاتورية و الظلم بعد ما تمّ تفسير النصوص بحسب هوى المفسر أو المرجع أو الحاكم و بآلتالي تشويه الأسلام و تغييره لأجل جيوب و مصالح الحاكمين و أحزابهم منذ وفاة الرسول و للآن!

هذه المقدمة ألمكثّفة هي عناوين كُليّة لكنها أساسيّة لموضوعات مصيرية بحثّتها بعد ما عشتها بواقعية و عُمق في دراسات و بحوث و مقالات كثيرة, يُمكن مراجعتها لمعرفة حقيقة الأسلام التي تشوهت كما اليهودية و المسيحية وآلتي سببت كل هذه المآسي ليس في بلادنا بل في كل العالم, لكن الذي أردت التركيز و الجواب عليه في هذا المقال من خلال تلك المقدمة هو آلسّؤآل التالي:
هل (حزب الدّعوة) بعد كلّ الذي كان, بإمكانه تطبيق الأسلام و تحقيق العدالة في العراق!؟
الجواب يحتاج لإستقراء دقيق ونظرة ثاقبة للدّعوة و آلدّعاة من الداخل, لمعرفة الحقيقة بشفافية عالية لكن بعد مدخل هامّ و ضروري؛
منذ أنّ تأسست (الدعوة) عام 1958م لازمته معظلة أساسية كانت السبب في محنه وتدني شعبيته كما نشهدها اليوم, رغم أن الفيلسوف محمد باقر الصدر هو أوّل من بيّن و حدّد إسم و عمل وهدف الدعوةّ في نشرة خاصة سمّي على ما أتذكر (حول الأسم و العمل التنظيمي), لكنهُ لم يُحدّد كما في النشرات اللاحقة ألمنهج الأخلاقي أو تفاصيل و شكل الحكم و الولاية و آلغاية و الأهداف التي تسعى لتحقيقها من وراء الدعوة لله, فآلصّفة الأسلاميّة التي كانت عنوانها العام هي نفسها بقيت مجهولة المعالم لتنعكس سلباً بعد إستلام السلطة, بل (المرحلية) نفسها تصدّعت و تمّ تجاوزها لعوامل خارجية, وتلك الأخطاء الجوهرية لا يتحملها آلمؤسس (رض) الذي كان وقتها و ليوم شهادته يقود و لوحده صراعا فكريّاً عالمياً مريراً مع نهجين معاديين أحدهما أخطر من الآخر توحّدت في جبهتين لمحو آلأسلام الحقيقيّ الذي ما زال مجهولاً حتى هذه اللحظة في العراق و باقي بلدان الأسلام المنكوبة, النهج الأول؛ كان فلسفياً يمثل أعداء الدِّين من آلخارج, حاول إثبات الوجود لدحض نظرياتهم و آرائهم الألحاديّة و سعيهم لفصل الدِّين عن ألسّياسة, و النهج الثاني؛ يمثل مُدَّعي الدِّين الذين حاولوا حصر الدِّين ببيوتهم و حوزتهم, حيث حاول(قدس) هذا الأتجاه أيضاً بعرض آلنظام ألأجتماعيّ و أسس الحكومة الأسلامية آلتي بقيت مجهولة المعالم هي الأخرى بسبب الأتجاه المرجعي التقليدي الذي لا يُؤمن سوى بآلمسائل الفقهية الشخصية مع تراكمات تأريخية و فقهيّة متحجّرة فتسبّب هذا المخاض في ولادة نهج حركيّ باسم (الدعوة) مُقتبس من سيرة الرّسول عبر أربعة مراحل[التكوين؛ المواجهة؛ السلطة؛ ثم الدّعوة للأسلام] لم يكن بعيدأً عن نهج آلأخوان المسلمين, لكنه (قدس) لم يُبيّن تفصيلاً أيّ شكل للحكم الأسلامي يقصده, و هذه كانت و لا زالت مشكلة عويصة حتى بين مراجع الدِّين, بإستثناء ما عرض من بنود قبيل شهادته و ختمها ببيان مختصر حول شكل آلحكومة التي أسسها الأمام كجواب على سؤآل من بعض طلابه اللبنانيين بعد نجاح الثورة عام 1979م, حيث طُبع في كُرّاس صغير لا يتعدى وريقات أشار لعمل السّلطات الثلاث, و لم نلحظ أيّ بحث أخلاقيّ في ثقافة الدّعوة المحدودة أساساً سوى ما كتبه الشهيد حسين معن عن: [الأعداد الروحي] في مؤلف صغير للمؤمنين بمستوى المتوسطة.

تصوّر إلى أين هبط المستوى الأخلاقي لحزب الدّعوة مع هذا الجّفاف الثقافي و آلتّحجر الفكريّ؛ فرغم وجود الأمام الراحل في أوساطهم لعقدين و صدى نهضته المُمتدة لعقود ثُمَّ آلثورة سنة1979م؛ لكن الدّعاة و بسبب فقدانهم للبصيرة الأستراتيجية فوجئوا بحدوث آلثورة وهم يجهلون أسبابها و منطلقاتها رغم أن المؤسس بيّنَ حقيقة تلك الثورة لهم بعبارات قويّة للغاية منها: [لقد حقّقت الثورة رسالة كلّ الأنبياء] و [ذُبوا في الأمام الخميني(الحكومة) كما ذاب هو في الأسلام] وغيرها, لكنهم بقوا يجهلون أبعادها ألعقائدية العالمية!

لهذا نرى تذبذب (الدُّعاة) و هبوط مستواهم الفكري و الأخلاقي في متبنّياتهم و مواقفهم بعد إستلام الحكم مع المتحاصصين الفاسدين بسبب ثقافتهم السّطحيّة التي تضمّنتها البيانات و النشرات الدّاخلية التي صُدرت قبل و بعد 1980 وإلى اليوم, حيث لم تكن ترتقى حتى لمستوى المؤمنين العاديين ناهيك عن الحركيين, حيث كانت أقرب إلى تقارير خبرية عن الواقع و لم تعكس فكراً أو فلسفة حية بإستثناء كُتيّب واحد و لبعض الحدود كتبه المرحوم ألسيد (أبو عقيل) بعنوان (القيادة في الأسلام), يُمكن عدّه ترجمة لما كتبه رواد الثورة الأسلامية كآلخميني في الحكومة الأسلامية و كآلفيلسوف مطهري و آلشيخ منتظري الذي كتب مُجلّدان كبيران بعنوان(ولاية الفقيه) كما الفيلسوف بآلأضافة لمؤلفات آلسيد الخامنئي و آية الله الأبراهيمي و غيرهم من الذين سبقوا الأخ المرحوم (أبو عقيل) بعقود من الزمن!

إنّ أهمّ أصل في حركة سياسية علمانية أو دينية أو غيرها؛ هو (الهدف) و آلأصل(ألأخلاقي) الذي يُبنى عليه مجمل الأسس المعرفيّة و الثقافية و الفكريّة العامة المتكاملة لتحقيق الهدف المقدس الأعلى الذي هو الآخر يجب أن يكون بيّناً و واضحاً للعاملين و مرتبطاً في نفس الوقت بحيوية مع آلسّماء و يستحق التضحيّة ليتسنّى للعضو آلمنتمي الذي يتعاهد مع الجّماعة الحركية أثناء الأنتماء معرفة ذلك الأساس و الهدف الأسمى و تفاصيل الوسائل و آلآليات للعمل و آلسعي من خلالها لتحقيق آلأهداف و حُسن العاقبة عند التضحية ضمن منهج الحزب بأعزّ و أغلى ما يملكً ألمنتمي في الوجود لنصرتها خصوصا عند الجهاد في أجواء صعبة و خطيرة و مُكهربة للغاية, و الحال أنّ هذا الأمر لم يكن واضحاً و بقيت مجهولة للآن و لو سألت آلدّعاة اليوم ما هو الهدف الذي تؤمن به؟ لكان جوابه مشوّشاً و غامضا, يتبيّن من خلاله بوضوح سطحية الثقافة و الأفكار التي يحملها الدّاعية نفسه, فكيف يمكن أن نُغيّر الأمّة مع هذا الوضع!؟

و لعلّ أهمّ و أعقد الأسباب التي أدّت لشهادة الكثير من آلدُّعاة و الموالين بعد سوقهم من بيوتهم و محلاتهم و دوائرهم للسجون من قبل قوات الأمن من دون إرتكاب خطأ أو جرم أو تقديم خدمة معينة يستحق ذلك؛ هو عدم وضوح ذلك الأصل(ألهدف) الذي ما زال مجهولاً أو معلّقاً و كأنه أهمل للأبد, هذا بجانب أسباب أخرى أضيفت لذلك, منها؛ إنشغالهم بآلسلطة و الحكم لأجل الأموال و الرّواتب, و علّة العلل في هذا الأنحراف الخطير الذي تسبّب بهدر دماء وجهود العاملين و الشهداء؛ هو إفتقار الدّعوة للعلماء و للمفكريين الحقيقيين و الفلاسفة العقائدين وكذلك عدم إنفتاحهم على أفكار العلماء و الفلاسفة الآخرين ألّذين قدّموا نتاجا فكرياً ثريّاً كان يمكن الأستفادة منه و إستثماره بصدق بعد الأعتراف بفضل أصحابها, لكن آلذي لاحظته و كان يحدث على الدوام هو حالة التكبر و آلتجاهل بحقّ المفكرين فلو كنت مثلا تُقدّم لهم فكرة أو نظريّة أو حتى نظرية هامّة عن مفكّرٍ أو عالمٍ أو فيلسوفٍ, كان أوّل تعليقهم هو: (نعرف ذلك من قبل) و لذلك و بسبب هذا التكبر و الأنغلاق و هبوط المستوى الفكري و آلأخلاقي و العقائدي للمُتصدّين؛ تسببوا في خسارة الدّعوة و الدّعاة و الشهداء معاً مقابل أرباح آنية, و إنّ آلدُّعاة الذين كشفوا هذه المحنة الفكريّة في القيادات الغير الكفوءة بعد نجاح الثورة الأسلاميّة قد أنسحبوا بعد هزّات و مؤثرات خارجية غيرت معالم وعنوان الدّعوة, ثم تلته الأنقسامات و الضحايا خصوصا ًبعد ما حذفوا فقيه الدّعوة من الهرم التنظيمي بآلأضافة لحذف مجلس الفقهاء تاركين الأمور للدّعاة في إنتخاب الموقف الأمثل عند تعارض الأدلة الشرعية من فقيه لآخر مع قرارات الحزب, و كان هذا هو قمّة الفلتان و الفوضى الفكريّة و السقوط الأخلاقي و العقادي وآلأداري الذي خلخل كيان الدعوة والدّعاة معاً وأدّت في النهاية إلى خسارة ألحكم في العراق الجديد و فقدان شعبية الدّعوة بسبب تصرفات آلدعاة المفلسين أخلاقياً الذين سبّبوا هضم حقوق الناس لتزداد المصائب و السلبيات و الشهداء و المآسي التي طفت على السطح بقوة بعد 2003م: لأنّ الشهداء و وإخوتهم الذين تركوا التنظيم كانوا بمثابة الخميرة و ألذخيرة الضامنة لسلامة المسيرة و تقويمها ثمّ ترجمتها عملياً عبر حكم العراق الذي خُلي اليوم من الطيّبين و المجاهدين الحقيقيين و كما شهد الواعون على قلتهم و إنزوائهم ذلك, حيث حلّ بدلهم (دعاة اليوم) الذين أفسدوا أو كانوا فاسدين ثمّ أصبحوا بشكل طبيعي رموزاً للفساد بلا حياء للأسف و سبباً لذهاب حرمة و كرامة دماء الشهداء العظام الذين سيق بهم للموت من قبل الصداميين أفراداً و جماعات لمجرد أنهم كانوا مؤمنين يعبدون الله بصدق لا أكثر!

من المواقف الظالمة التي شهدتها شخصيّاً بعد هجرتي من العراق؛ هو أنّ الدّاعية الحقيقي عندما كان يُريد قطع إرتباطه بآلحزب بعد ما كان ييأس من الأصلاح و التغيير لأقلمتهم مع الثورة الأسلاميّة التي أوصى بها مؤسس الدعوة: شاهدتُ و للأسف بدل أن يُنصتوا له أو يدرسوا أسباب إستقالته؛ كانوا يتعاملون معهُ بآلعكس لحدّ إقامة المحاكم و الأستجوابات ضدهم ثمّ إلصاق التهم و كأنهم كُفّار, و لو كانت(القيادة) تٌحاول تفهّم و وعي الأسباب؛ لما كانت الدّعوة تواجه آليوم هذا آلمصير, حيث لم يبقى فيها سوى النّفعيّين والطفليين الذين (تعرّبوا بعد آلهجرة) حتى أعلنوا بأن (حزب الدعوة الأسلامية) قد تبدّل لـ(حزب الدّعوة العلمانيّة), و أخيراً وبعد إنتشار فساد الدّعاة بين الناس, أعلنوا في الوقت الضائع؛ بأنّ “آلدّعاة” ليس لهم الحقّ بترشيح أنفسهم للأنتخابات باسم الدّعوة وإنما كاشخاص يمثلون أنفسهم لحفظ ما بقي من إعتبار شكليّ للدّعوة بعد أن أستهلكوه لمنافع مالية شخصية ولكن هل يُجدي هذا الترقيع شيئا بعد خراب البلاد والعباد؟
إن الذي أراه و الله الأعلم؛ هو أنّ (دعاة اليوم) و من تعلّق بهم و بأمثالهم من آلجهلاء و المنافقين؛ قد وجّهوا طلقة ألرّحمة لرأس حزب الدّعوة و لا تنفع التراقيع الجانبية و سيطول وقوفهم أمام الله و أمام الشهداء العظام الذين ضحوا لأجل (العدالة و آلمساواة) لتحقيق (السعادة) وسط شعب مغضوبٌ عليه من السّماء و الأرض بعد ما تراكمت عليه الذنوب. و لا أمل في ردّ الأعتبار للدّعوة إلا إذا ما أعلن الدعاة توبتهم ثمّ إرجاع المليارات للفقراء و آلإعمار و تشكيل حكومة عادلة بعيدة عن سلطة المستكبرين يتساوى بظله الجميع و آلمُلك يومئذٍ لله يحكم بينهم فآلذين آمنوا و عملوا الصّالحات في جنات آلنعيم وآلذين كفروا و كذبوا بآياتنا فأؤلئك لهم عذاب مهين.
الفيلسوف الكونيّ