تأملات في التطور الحضاري والابداع الفني لحضارة سومر

بقلم- صادق الصافي

شَبّهَ الفيلسوف الالماني هيجل المجتمعات بالافراد الذين ينقلون شعلة الحضارة من شخص لآخر,وكان الفيلسوف سينجلر يعتقد ان الحضارات مثلها مثل الكائنات الحية,تولد وتنضج وتزدهر ثم تموت. ويذهب معظم علماء الآثار القديمة الى ان بزوغ الحضارات يعود لعدة اسباب منها البناء السياسي والاجتماعي للحياة والطريقة التي يكيّف بها الناس البيئة المحيطة بهم والتغييرات على السكان.

وقد حصلت الحضارات على تعريفات عدة,انها الفنون والتقاليد والميراث الثقافي والتاريخي ومقدار التقدم العلمي والتقني الذي تمتع به شعب معين في حقبة من التاريخ. لكن التعريف المتفق عليه دولياً للحضارة بانها نظام اجتماعي يعين الانسان على تحسين الانتاج الثقافي وتتضمن طرق العيش والظروف الطبيعية والوضع الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية بين المجتمع وانظمة الحكم السائدة والانجازات الثقافية والعلمية والعمرانية الفنية.

الموضوع-

قدم لنا علماء الآثار والتنقيب صوراً جميلة عن الثروة العظيمة التي امتلكتها الحضارات القديمة في بلاد الرافدين-موسوبتايا-حيث شهدت معجزات من التطور الثقافي الفني المعماري لاتقابله أية معجزة في تاريخ البشرية,خاصة في مجالات اختراع الكتابة والفنون والفلسفة والدين والفلك,حتى ان هناك فنانون وقصاصين وموسيقيين أثروا كثيراً على تحفيز افكار الانسان في تلك العصور,وساهمت اعمالهم في عملية التقدم والتطور الحضاري.

سجل لنا الكاتب والعالم الآثاري-ستين لويد- الذي عمل في التنقيب الآثاري لعدة سنوات في العراق-اعجاباً وانبهاراً عن عظمة الانسان الرافديني ومغامراته في مجال التعبير الفني,قدمها لنا كعروض ممتعة مثيرة للاهتمام عن الفنون الرافدينية في كتابه-فن الشرق الادنى القديم- وسجلَ الحُقب التاريخية التي مرّ بها تطور الفنون بشكل عام. واشار بشكل دقيق وواضح الى ان اقدم استيطان حضري تمَّ بشكل فعلي حقيقي في جنوب العراق,ويعود الى الالف الخامس قبل ميلاد السيد المسيح في منطقة اريدو-تل العبيد- ويمثل هذا الموقع بداية تاريخ العراق القديم-في بلادالرافدين- ومن حضارة العبيد الاولى وجدت اول كتابة صورية معروفة في التاريخ,كما اكدته التنقيبات الاثرية

ثم تقدمَ فن الكتابة المسمارية في دور جمدة نصر-جنوب العراق-وهو آخر دور من ادوارماقبل الطوفان.وقد استخدم فن الفخار في موقع تل العبيد وتطور هذا الفن كثيراً باختراع السومريين للدولاب الفخاري الذي يتحكم به يدوياً,كما اشار اليه -الدكتور مورتكات في كتابه تاريخ الشرق الادنى القديم-

وظهر استخدام دولاب الخزِّاف في صنع الاواني الفخارية في مدينة اوروك-الوركاء حاليا- والتي اسست فيها المعابد والابنية باشكال معمارية هندسية رائعة تدل على عظمة عقول الفنانين السومريين,اضافة لقيامهم بتطويع الاحجار الصلدة لعمل المنحوتات والتماثيل,وقد كانت الحجارة تستورد من دول اخرى لهذه الغايات كون مناطق جنوب العراق منطقة سهلية ترابية,فكان الفنان السومري متحفظاً مقتصداً باعمال الحجر من التبذير لشحته,فقام بصنع تماثيل الحيوانات والطيور واشكال اخرى من الطين المفخور بمواقدالنار,كما صنع الفنان السومري التمائيل من المرمر وحجر الديورايت الصلب كما في -تماثيل الملك المصلح كوديا-واستخدموا الاحجارالملونة بالوان الابيض والاسود واللازورد,وصنعوا الزخارف الشبيهة بالفسيفساء خاصة في معابد اوروك,ويعزو العلماء هذه النهضة الفنية للعبقرية الموروثة التي حفزت تطورها السريع,حيث حققت هذه الشعوب القديمة منجزات حضارية وفنية على رقعة واسعة على ارض-موسوبتاميا-حيث تاسست فيها انظمة حكم وبنيت المدن بطرق معماريه مذهلة واعيه,وصيغت المعتقدات الدينية والاهتمامات بالفكر الفلسفي الديني,وظهور فنّ الكتابة والنحت وممارسات في العلوم تدلّ على التطور المدهش وتعبيرواعي عن خصوبة اهداف الخيال الانساني في بلاد الرافدين.ويبدو ان العراق مدّين الى مجموعة العلماء الآثاريين الذين تركزت جهودهم في اعمال التنقيب المحتلفة واعمال شرح الآثار ومساعدتهم القيّمة في كشف أزدهار الحضارة السومرية وكذلك ما تلاها من الحضارات الاكدية والبابلية والآشوريه ..الخ,حيث تجد ان هذه الحضارات تقدمت بشكل عظيم في مجالات البناء والفنون والثقافة والعلوم الاخرى,فالمدن مسيّجة ومزيّنة بالمباني العامة والقصور والمعابد,كما نظمّت الحكومات القوانين ومشاريع الرّي واستخدموا النقل بالمواصلات النهرية واخترعوا العجلات في النقل البري,وقد تأثر الفنّ بالمعتقدات الفلسفية وافعال القوى الآلهية المخيفة,وكان اكثر الاعمال ندرّة التصاميم الزخرفية والمسّلات التي تخلد النصر والمعارك,كما حظيّ الفنانين الاهتمام بفن النحت البارز والغائر في عمل الاختام الاسطوانية التي تُصَوّر تأملات الفنان السومري وهو يرسم الاحداث والمناسبات اويترجم ماورد في الانشادات الاحتفالية,تؤكد ازدهار وتطور الحياة في مظاهرها وسلوكها وفلسفتها وقوانينها في ظل ملوك سومر بدءاً من كلكامش ملك اوروك,واورنمو في اور و كوديا في لكش وغيرهم

وهناك نماذج متعددة للفن العراقي القديم في العصور السومرية كما هي مثبتة في مؤلفات العلماء المختصين,منها لوحة نقشها-الملك اور-نينا-حاكم لكش-تللو-قرب الشطره جنوب العراق,احتفاءاً ببناءه معبداً جديداً وقد صورمعه افراد عائلته وشخصيات مهمه,وهناك عملاً فنياً ذا اعتبارات جمالية عالية في التصميم وهي-مسلة اي اناتم- من تلول-لكش-تللو-عبارة عن علامة حدودية نصبت بعد احدى المعارك لتسجيل اتفاق تعاقدي بين المنتصر والمهزوم-الخاسر-وكان -الملك اي اناتم حاكم-لكش-تللو- تمكن من القضاء على الفتن والاضطرابات التي كانت تثيرها عليه دويلات المدن المجاورة, فقام بحملات عسكرية على مدينة-اوما-قرب الرفاعي-التي كانت تضمر العداء لهم وانتصر على ملك اوما – اين آكالا- كما دخل في حروب مع -اور-و-كيش-وانتصر فيها على ملك اور.وكانت مسلة-آي آناتم-من الاعمال الفنية الشهيرة المعروفة بمسلة -العقبان-التي خلد فيها انتصاراته على مدينة-اوما-وقد حظيت بتوصيفات شعبية عراقية طريفة بمقولة-ياحوّم اتبع لو جرينا- كما ازدهرت فنون النحت لتماثيل الآلهة والملوك بالحجر الصلد والمرمر اشهرها تماثيل ملك لكش كوديا التي صنعت من حجر الديورايت الاسود,ومنحوتة راية اور الشهيرة المصنوعة من الحجر,والخوذة الذهبية للملك مسكالا مشار في اور والمصممة بشكل فائق المهارة,وزخرفة الاشكال كما في القيثارة الذهبية من عصر اور وهي مزخرفة الى جانب رأس ثور من الذهب الخالص بالتطعيم بمواد اللازورد والصدف والخشب, والتي قال عنها عالم الآثار- الدكتور وولي-ان الدهشة تغشي الابصار جراء التنافرالمجّسد في الثور الذي نَمَتْ له لحيَّه .؟-

صادق الصافي

كاتب عراقي مقيم في النرويج